يتزايد الدور الذي تلعبه الصين في سجالات السياسة الدولية مع تزايد نموها الاقتصادي. كما تلعب هذه الدولة التي غدت اليوم عضوا رئيسيا من أعضاء مجموعة العشرين الكبرى، دورا مهما في المساعدة على صياغة أولويات السياسة الدولية مستقبلا، وكذلك في استنباط حلول للمشكلات العالمية الكبرى. والسؤال هنا: ما هي التحديات الأساسية التي يواجهها العالم في الوقت الذي بدأ يخرج فيه من الأزمة العالمية؟ وما الذي يمكن للصين تحديدا أن تقوم به في هذا السياق؟ إن ما يبدو واضحا أمامنا الآن، هو أن الاقتصاد العالمي قد اجتاز مُنحنى الخطر أخيرا وبدأ يدخل في مرحلة التعافي الاقتصادي. والتعافي الاقتصادي لا يتم على نحو متساوٍ، كما أنه لم يصل بعد إلى الدرجة التي يتمكن فيها من الاستمرار اعتمادا على قوته الذاتية. لكن من الواضح أيضاً في هذا السياق أن بعض الاقتصادات الناهضة -خصوصا في القارة الآسيوية منها- تستعيد الآن عافيتها الاقتصادية على نحو قوي. فالصين تستهدف تحقيق نمو بنسبة 8.5 في المئة خلال عام 2009، ونمواً بنسبة 9 في المئة لعام 2010. وفي الوقت الذي تحسنت فيه التوقعات العالمية -لحسن الحظ- إلا أننا لا زلنا نواجه العديد من التحديات السياسية. والخطر الأكبر الذي نواجهه في هذا السياق، هو سحب الحوافز السياسية التي قدمتها الحكومات من أجل الإنقاذ الاقتصادي قبل فوات الآوان. فرغم أنه من المنطقي والموضوعي أن نبدأ منذ الآن للتخطيط لما يعرف باستراتيجيات الخروج من المأزق، إلا أن صناع السياسة يجب أن يبذلوا قصارى جهدهم من أجل إبقاء الإجراءات الداعمة للتعافي الاقتصادي في مكانها، حتى يرسخ مثل هذا التعافي جذوره الفعلية في أرض الواقع، وحتى تُوجد في نفس الوقت الظروف التي تؤدي إلى تقلص معدل البطالة. وفي الصين سوف يكون التزام الحكومة بالمحافظة على الحوافز المالية، واستمرارها لتشمل عام 2010 كذلك، أمرا مهما لدعم النمو الاقتصادي. ومع ذلك، وكما تدرك بوضوح الحكومة الصينية، فإن الوقت قد حان لإبطاء إيقاع نمو القروض الاقتصادية السريع للغاية، والذي يرفع من نسبة المخاطر المتعلقة بالإفراط الاستثماري، وتجاوز الطاقة الاستيعابية للإقراض، بما يؤدي في النهاية إلى نشوء ظاهرة القروض الرديئة. ومع ظهور بوادر التعافي، فإن من بين التحديات السياسية القصيرة الأمد للاقتصاد العالمي، تلك الكيفية التي يمكن بها تحقيق توزيع الطلب عبر الاقتصادات المختلفة بشكل أكثر استقراراً. وهذا هو التحدي لما أصبحنا نطلق عليه "إعادة التوازن الاقتصادي العالمي". وفي الفترة التي سبقت الأزمة، ازدادت الاختلالات العالمية بشكل خطير، كما أعرب الكثير من الخبراء عن مخاوفهم من أن تتم عمليات ضبطها بطريقة غير منظمة. وهذه اللاتوازنات كانت مصدراً لقلق صناع السياسة. وعلى الرغم من أنها -اللاتوازنات- قد تضاءلت خلال تلك الأزمة، إلا أنها لا تزال كبيرة مع ذلك، كما يمكن أن تتزايد وتتسع مرة ثانية عند ما يعود الاقتصاد العالمي إلى حالته الطبيعية. وهناك سؤال يفرض نفسه في هذا السياق: ما الذي يمكن للاقتصاديْن الواقعيْن في صميم هذه الأزمة، وهما الاقتصاد الأميركي والاقتصاد الصيني، عمله؟ في الاقتصادات التي تعمل بأسلوب الإدارة بالعجز، والتي يكون فيها هذا العجز كبيراً، والتي تشمل الاقتصاد الأميركي نفسه، فإن إجراءات التعزيز المالي يجب أن تكون لها الأولوية على ما عداها. أما الاقتصادات التي عانت من زيادات في أسعار الأصول، فإن إصلاح القطاع المالي سوف يكون أمرا ضروريا ولازما للتعافي الاقتصادي الدائم. من ناحية أخرى، وفي الاقتصادات التي توجد بها فوائض كبيرة في الحساب الجاري، هناك حاجة لتعزيز الطلب المحلي بحيث يصبح أقوى مما كان عليه. ففي اقتصادات منطقة اليورو، واليابان، يجب زيادة درجة المنافسة في أسواق الإنتاج والعمل... أما في أسواق الدول الآسيوية الصاعدة، فإن إعادة التوازن تعني زيادة الطلب والاستثمارات المحلية، في العديد من تلك الدول، أما بالنسبة للصين فإنها تعني تعزيز الاستهلاك المحلي. وقد قامت القيادة الصينية بالفعل بصياغة رؤية واضحة بشأن كيفية تعزيز الاستهلاك الخاص. ومن المعروف أن الإنفاق الاستهلاكي في الصين ينمو على نحو أسرع من الاقتصاد بشكل عام. لكن الصين لن تكتفي بذلك، بل ستقوم كما ألمح الرئيس الصيني "هو جنتاو" مؤخرا، بالعمل على اتخاذ مزيد من الخطوات لتعزيز الإنفاق المنزلي، وتقليل الاعتماد على الصادرات، في الفترة المقبلة. وهناك الكثير مما يجري اتخاذه في الوقت الراهن. من ذلك على سبيل المثال المبادرة الجسورة الجديدة لتقديم رعاية صحية راقية لمعظم أفراد الشعب الصيني، وإصلاح نظام المعاشات في المناطق الريفية. ومع ذلك ما يزال ثمة الكثير مما يمكن عمله من أجل تحقيق تحول بنيوي دائم نحو الاستهلاك، وذلك من خلال توسيع نطاق السياسات الاجتماعية، والمضي قدما في إصلاحات القطاع المالي، وتبني إصلاحات الحوكمة المؤسسية، وتعزيز وضع العملة. فالسماح لليوان وغيره من العملات الآسيوية، بالارتفاع، سوف يساعد على زيادة القدرة الشرائية للأسر، وزيادة نصيب العمال من الدخل، وتقديم الحوافز لإعادة توجيه الاستثمارات إلى مجالات ومواقع أخرى. في نهاية المطاف فإن زيادة الطلب المحلي الصيني، مع زيادة المدخرات في الولايات المتحدة، سوف يساعد على إعادة موازنة الطلب العالمي، وتقديم الأدلة التي تدعو للاطمئنان على بزوغ اقتصاد عالمي أكثر عافية يستفيد منه الجميع. دومينيك شتراوس مدير صندوق النقد الدولي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"